الحمد لله على نعمة الإسلام، وعلى نعمة القرآن، وعلى نعمة الصلاة مع الإمام،
والصلاة والسلام على خير الأنام، محمد وعلى آله وأصحابه الكرام.
أما بعد:
فإن حكمة الله-عزوجل-بالغةٌ في كل شيء، فما من شيء خلقه أو شرعه أو أمر به إلا وله
فيه حكمة، فإما أن تكون هذه الحكمة ظاهرة للناس أو أنه-سبحانه وتعالى-أخفاها عليهم
لحكمة، وإن من أعظم شيء في شرعه-سبحانه وتعالى-هي الصلاة، فقد جاء هذا الدين لينظم
حياة المسلم أيما تنظيم، ويربطها بخالقها في معظم أوقاته إن لم نقل كلها، فهاهي
صلاة الفجر من أول بدء اليوم الجديد إذ بالشارع الحكيم قد أمر عباده أن يبدؤه
بالاتصال به-عزوجل-، ثم لا يتركهم فترة ليست بالطويلة إلا ويأمرهم أن يأتوا بالصلاة
الأخرى ألا وهي صلاة الظهر، وهكذا العصر, والمغرب, والعشاء، كل هذا لكي لا يكون
المسلم بعيداً غافلاً عن ربه وخالقه، بل لا بد أن يكون على اتصال دائمٍ مع خالقه
ومولاه؛ لكي يهذَّب نفسه مع باريها وخالقها، ولكي تطلب حاجتها منه سبحانه، وكذلك
دفع ما نزل بها من مصائب وكربات، فيا لها من حكمة حيرت العقلاء في معرفتها، سبحانك
ربي سبحانك.
قد
يستغرب من هذا العنوان الذي كتبناه بهذه الصيغة،
وإنما هي محاولة لإظهار بعض من
هذه الحكمة وما خفي علينا أكثر وأكثر. بل لا يستطيع أن يدعي أحد أنه علم الحكمة
كاملة من أي عمل أمر الله به أو نهى عنه, وإنما هي محاولة لإظهار مع يستطاع الوصول
إلى معرفته، ثم يترك مالا يستطاع الوصول إليه إلى حكمة الله في إخفائه، وإننا في
هذا المبحث القصير سنذكر ما نستطيع عليه من إظهار الحكمة في صلاة الجماعة, وهي من
أعظم شرائع الدين أي(الصلاة) بل هي عمودة. ولا يثبت الإسلام لأحد إلا بها.
من فضل الله تعالى على عباده أنه جعل الثواب الجزيل على أداء الصلاة في الجماعة.
فقال الله-تعالى-:{وَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}(43)
سورة البقرة.
قال ابن كثير-رحمه الله-: "أمرهم أن يركعوا مع الرّاكعين من أمّة محمد-صلى الله
عليه وسلم-يقول: كونوا معهم ومنهم"(1).
وأما عن فضلها وأنها أبلغ في الجزاء والثواب من صلاة الفرد أو الفذ, فقد وردة في
ذلك أحاديث صحيحة, ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- أن
رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: (صلاة
الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)(2).
وفي رواية أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي-صلى الله عليه وسلم-يقول:(صلاة
الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)(3),وعند مسلم من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-:(صلاة
الجماعة تعدل خمساً وعشرين من صلاة الفذ)(4).
هذه وغيرها من الأحاديث التي رواها أهل السنن وغيرهم في فضل صلاة الجماعة, وإننا في
هذا المبحث ليس معرض كلامنا على فضل صلاة الجماعة, وإنما أشرنا إليها من باب
الفائدة, وأما حديثنا هنا فهو عن الحكمة من صلاة الجماعة, وهي أي (الحكمة) عبارة عن
حكم وفوائد تعود على المسلم في حياته وآخرته, فمن هذه الحكم والفوائد ما يلي:
1-
أن الله جعل في صلاة الجماعة تعارف الإخوة والأَحبَّة في الله على بعضهم، وتوثيق
أواصر المحبَّة بينهم، والتي لا يتيسّر الإيمان إلا بها، فإنّه لا سبيل للإيمان ولا
إلى الجنّة إلاّ بالمحبة في الله تعالى.اسمع إن شئت قوله صلى الله عليه
وسلم: (والذي نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا
أولا أَدلّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السّلام بينكم(5)
راجع: " الصلاة وأثرها في زيادة الإيمان وتهذيب النفس ص 24.
2-
أن الله-عزوجل-أراد لمن أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً متصلة أن يكون عبداً
بريئاً من النفاق والنَّار، وذلك لما رواه أنس–رضي الله عنه-عن رسول الله-صلى الله
عليه وسلم–أنه قال: (من
صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يدُرِك التكبيرة الأولى، كُتبت له براءتان: براءةٌ
من النار، وبراءةٌ من النّفاق)(6).
3-
أن الله جعل في ذلك اجتماع شمل المسلمين, وتأليف قلوبهم على الخير والصلاح,
فعندما يلتقون كل يوم خمس مرات في بيت من بيوت الله- عزوجل-, يحصل لهم الاجتماع
ولمِّ الشمل وتوحيد الصف.
4-
أن لله جعل في ذلك تكافل المسلمين وتعاونهم فيما بينهم, عندما يأتون إلى المساجد
فيعرف الفقير والمحتاج، فَيُنْظَرُ في أمرهم، ثم يعطون من الصدقة والزكاة.
5-
أن
الله جعل في ذلك إظهار شعائر الدين وقوته، وأن المسلمين لا زالوا محافظين على أداء
شعائر دينهم, وأن هذه الفريضة لن يتركها المسلمون إلا في آخر زمانهم, حيث جاء من
حديث أبي أمامة الباهلي-رضي الله عنه-أنه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:
(لتنتقض
عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضاً
الحكم وآخرهن الصلاة)(7)
.
6-
أن الله جعل في ذلك سبباً لتوحيد المسلمين، حيث يجتمع في الصف الواحد الأبيض
والأسود، والعربي والعجمي، والكبير والصغير, جنباً إلى جنب في مسجد واحد، وراء إمام
واحد، في وقت، متوجهين إلى قبلة واحدة, واتجاه واحد, أليس في هذا من الحكمة على
توحيد المسلمين. بلى والله إنها حكمة بالغة.
7-
أن الله جعل في ذلك إغاظة أعداء الله عندما ينظرون إلى بيوت الله وهي مليئة
بالمصلين فإنهم يغتاضون لهذا؛ لأن المسلمين لا يزالون في قوة وفي منعة ماداموا
محافظين على هذه الصلاة في المساجد, ولهذا فإنه قال أحد الغربيين إنه لا يستطيع
المسلمون أن ينتصروا على الكفار إلا بعد أن يكون عددهم في صلاة الفجر، كعددهم في
صلاة الجمعة, وهذا دليل على أنهم يغتاضون عندما يرون المسلمون يقبلون على بيوت الله
في جميع الصلوات المكتوبة، وهذه حكمة بالغة.
8-
أن الله جعل فيها أي (صلاة الجماعة), تهذيب للنفس وتربيتها، حيث يحصل لها من زيادة
الإيمان عندما تسمع قراءة القرآن من الإمام، وكذلك أحاديث رسول-صلى الله عليه
وسلم-عندما تُلقى الكلمات, والمحاضرات, والندوات في المساجد, فيذَّكر العبد نفسه
بالله والآخرة, وكذلك حقارة الدنيا، فيهذَّب نفسه ويربيها على الخير والصلاة
والتقوى، وغيرها من أمور البر.
9-
أن الله-سبحانه وتعالى-جعل في صلاة الجماعة سبباً لمحو الخطايا ورفع الدرجات، فقد
ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-أن
رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: (ألا
أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)
قالوا " بلى، يا رسول الله". قال:(إسباغ
الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلك
الرباط)(8)
.
10-
بيان قوت المسلمين وضعفهم في إيمانهم، إذ لا يتردد على المساجد إلى المسلمون الذين
رسخ في قلوبهم الإيمان فهم أقويا، وأما من تغيب عن المساجد فإنه-والله المستعان-قد
دخل في قلبه شيء من النفاق والضعف. حيث يدل على هذا المعنى قول الصاحبي الجليل عبد
الله بن مسعود إذ يقول:"وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق"(9).
والحديث المتفق عليه يشهد لهذا القول فقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:(إن
أثقل الصلوات على المنافقين صلاة الفجر والعشاء, ولو علموا ما فيهما لأتوهما ولو
حبوا)(10).
وفي الأخير نسأل من الله-عزوجل-أن يوفقنا لأداء الصلاة في جماعة, وأن يعز الإسلام,
وأن ينصر المسلمين إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين